U3F1ZWV6ZTQzNTUwNjc2NzQ5ODk1X0ZyZWUyNzQ3NTUzMjc1ODQwMg==

شام - الهرم المصرى نيوز

 



 

بقلم / إيناس رمضان عبد الحميد 







لقد فارق النوم أعيننا وكأنه أصبح شيء صعب المُنال، وكيف يغمض لنا أجفان ومَوردِ الرزق الوحيد لنا لم يعد مجدِ، من يستطع أن يشتري الرفاهيات في بلدٍ دب الركود في أركانه بفعل الحصار، لم يعد أحد يهتم بشراء ألعاب الأطفال، فكلما مرت السنوات يصبح الحصار خانق، وتزداد تبعاته علينا، أصبحنا نستغني عن أشياء  كثيرة، أمس كان وجودها شيء عادي، اليوم أصبحت من الرفاهيات، شعرت بأن جدران الغرفة تضيق، وبأني لا أستطيع التنفس، نظرت جواري فوجدت "عمار" ما زال يغط في نوم عميق، نهضت من فراشي وخرجت إلى غرفة المعيشة، وجدت "أم عمار" كانت تجلس على الكرسي وتمسك بيدها مصحف تقرأ فيه، عندما رأتني ابتسمت وأشارت لي  أن أجلس،  نظرت إلى وجهها الأبيض الذي غزته خطوط الزمن، وتلك اليد التي برزت عروقها الخضراء، وشعرت براحة وقلت لنفسي" سيفرجها الله طالما أنتِ بخير يا أمي"، أنهت قراءتها ونظرت لي وقالت:

_ استيقظتِ باكرًا اليوم على غير عادتك.

_ لقد هجر النوم عيناي طوال الليل.

_ ما الذي حدث، أخبريني، ألست مثل أمك.

_بل أمي.

_ كنت أفكر كيف أساعد "عمار"، كما تعلمين أصبح المحل لا أحد يشتري منه شيء، وقد أوشكت النقود التي معنا على النفاد، ولا أعلم ماذا أفعل، حاولت أن أجد حلًا لكل هذا، ولكن لم أجد يا أمي، يا إلهي لا أريد سوى أن أحيا أنا وزوجي حياة كريمة، وكأن كل ما أذنبناه في هذا العالم أننا خلقنا على أرض فلسطين.

_ هذا ليس ذنبًا يا "فاطمة"، بل هذه هبة منحنا الله إياها، سوف تمر هذه الأيام وسيتحرر الأقصى، وسيعود المحتل إلى تلك البلدان التي أتى منها، هوني علي نفسك.

_ كلما نظرت إلى وجه "عمار" ووجدته قد رُسمت عليه علامات الحزن، واختفت تلك البسمة منه تنتابني غصة تملئ قلبي.

_ هذا ليس حالنا فقط؛ بل حال سكان غزة كلها.

_ أعلم، ولكن هذا ليس عدلًا، هل من حق كل الدول أن تتحرر وتتخلص من المحتل، ونحن لا! لماذا، أليس من حقنا أن نحيا على أرضنا أحرار، أليس من حقنا أن ننعم بالسلام والأمان!

_ نعم حبيبتي هو حقنا، ووعد الله لنا الذي سيتحقق، أكيد نحن واثقون من ذلك، ما يفعله المحتل بنا لن يكسر إرادتنا، هوني على نفسك يا "فاطمة''، والآن  سوف أقترح عليكِ مشروع فعلته قريبة لي تعيش في الخليل، كانت تعد الأطعمة  وتصنع الحلويات وتبيعها لسيدات أُخريات، أطعمة تكون سهلة التحضير، ما رأيك بتلك الفكرة؟! وأنتِ ما شاء الله طباخة ماهرة.

غزت ملامح وجهي الراحة، والأمان بدأ يعرف طريقة إليّ، وقلت:

_ ولكن يا أمي هل سيوافق "عمار" على ذلك؟!

_ نعم حبيبتي سأقنعه، والآن اذهبي إلى السوق، لقد دبرت مبلغ من المال، خذيه واذهبي وأحضري الخضراوات المطلوبة.

قبلت يدها، وأمسكت الهاتف واتصلت على "فرح" صديقتي لكي تذهب معي؛ فلم تمانع، ارتديت ملابسي وخرجت من المنزل، رأيتها تقف بالقرب من منزلها، أسرعت بخطواتي إليها، صافحتها  فارتسمت على وجهها ابتسامة عذبة، نظرت إليّ وقالت:

_ سآتي معك ولكن بشرط واحد فقط.

_ ما هو أخبريني. 

_ أن نذهب إلى البحر أولًا، لقد اشتقت للجلوس معكِ هناك.

_ اتفقنا، أمامك نصف ساعة لتستعدي، سوف أنتظرك بالقرب من منزلك، لا تتأخري.

بعد أن أنهيت اتصالي معها؛ ارتديت ملابسي سريعًا، وذهبت إلى ذلك المكان الذي سأنتظر فيه "فرح"، وبمجرد وصولي إلى هناك رأيتها قادمة نحوي، احتضنتها، أشعر دائمًا وهي معي أنها عائلتي، أشعر وكأن الله عوضني بها، بعد أن فقدت الجميع في الحرب السابقة، ابتسمت ثم قالت:

_  أتذكرين آخر مرة ذهبنا فيها إلى البحر؟!

_ نعم، أذكرها يا "فرح"، وكيف أنساها! جلسنا معًا نتحدث، كان هناك أُسر وأطفال تلعب، المنظر كان مبهج حقًا، وفي خلال دقائق تغير كل شيء وكأننا أصبحنا في أهوال يوم القيامة، النيران تشتعل وأصوات الصرخات عالية والدماء المتناثرة على الرمال في كل مكان، ولكن مع كل هذا الوجع... حفر في ذاكرتي منظر تلك الطفلة التي كانت تصرخ وتقول:

_ أبي استشهد.

_ كانت تمسك يده والدماء خضبت وجهه وتصرخ، لم يستطع أحد إسكاتها، ظل منظرها ملازمًا لي، لم أستطع محوه من ذاكرتي.

أتعلمين يا "فرح" كلما نظرت إلى السماء، ووجدت الطيور تطير عاليًا... أقول لنفسي هذه روح طفل من أطفالنا ترفرف بجناحيها لتخترق السماء وتصعد إلى الجنة.

_ سوف يأتي فرج الله يا "فاطمة" لا محال، أبشري، وكفاكِ كلامًا، وانظري إلى البحر كم هو جميل بحر غزة.

_ كل ما في غزة جميل يا "فرح".

_ أخبريني هل انتهى حمزة من تجهيز الشقة أم لا؟!

_ ما زال ينقصها بعض الأشياء، أريدها أن تكون أجمل شقة لعروس في غزة كلها، أريدها أن تكون قصرًا.

_ لا فائدة من الحديث معكِ؛ لقد أخبرتك مرارًا أن تتزوجي وبعدها تكملي ما شئتِ من الشقة.

_ أنتِ تعلمين مسبقًا أنه لا جدوى من الحديث معي في هذا الموضوع.

ثم نظرت لي وضحكت، لم أشعر معها بالوقت الذي مر، أحببت أن أطيل معها الجلوس أكثر، أحببت ذلك النسيم الذي يهب بين الفينة والأخرى من البحر، أشعر بأنه يداعب عقلي أيضا يمسح منه كل ما يؤلمه، أشعر برائحة اليود وهي تملئ رئتي وتتخلل قلبي لكي ترتب عليه من قسوة تلك الأيام وما نعانيه، من محتل فرض علينا  حصار وكأنه أراد أن يقطع أوصالنا، لا يريد لنا الحياة،  ولكن سوف نظل نقاوم مثل شجرة الزيتون، نظرت جواري فرأيت أطفالًا صغارًا يلعبون، بعضهم كان يمسك مسدس لعبه ثم يضرب الآخر، والآخر يسقط ويأتي أصدقائه ويحملونه وهم يهتفون لا إله إلا الله الشهيد حبيب الله، هذه هي ألعاب الأطفال هنا في غزة، لن تجد طفلًا في العالم يلعب مثلهم، ابتسمت لهم ثم نظرت إلى "فرح" وقلت لها:

_ هيا بنا نذهب إلى السوق لكي أحضر الخضار، لا أستطيع أن أتأخر أكثر؛ فأطفالي على وشك الاستيقاظ، وأمي لن تستطيع إسكاتهم. 

رفعت "فرح" حاجبيها، وظهرت نظرة حماس من عينيها، ثم قالت:

 لقد فكرت كثيرًا في المشروع، أمس تحدثت مع أخي الذي يقيم في ألمانيا، وخلال حديثنا أخبرته أني أريد أن أفتح مشروعًا صغيرًا في منزلي يدر عائد مادي لي، فاقترح عليّ أكثر من مشروع.

_ ما رأيك يا "فاطمة" في زراعة الصبار فوق المنزل،  فمنزلك كبير، استغلي تلك المساحة وازرعيها صبار، نقطف أوراقه ثم نحول  المادة اللزجة التي بداخله إلى صابون، سوف أعلمك كل شيء لا تقلقي، وأنا سوف أقوم بزراعة الحديقة التي في منزلي بالزهور والرياحين، وسوف أرسلهم إلى حمزة، سيستخلص  منهم المادة العطرية وسنصنع منهم عطورًا، ما رأيك.

حركت رأسي يمينا ويسارا فالفكرة غريبة بعض الشيء، ولكنها فكره رائعة، أسعدتني وكأن الله قد ساقها إليّ، نظرت إليها وقد اعتلت السعادة وجهي، فكرة جميلة الكل يحتاج إلى الصابون وأسعاره غاليه هنا، ولكن إذا تم صناعته محليًا سوف يكون سعره أقل، وسوف يزداد الطلب عليه، وهو أيضًا منتج طبيعي.

ابتسمت ثم قلت لها:

 -موافقة يا فرح.

 بعد أن أنهيت كلامي معها ذهبت أنا وهي إلى إحدى البساتين المجاورة، وتحدثت مع البستاني أخبرته  عن شتلات الصبار التي أحتاج إليها، وعندما عدت إلى المنزل أخبرت أمي و"عمار" بكل شيء عن مشروع الصابون، أعجبتهم الفكرة وبدأنا في تنفيذها، "عمار" أعد أحواض إسمنتية صنعها بنفسه، وأنا جلبت بعض الإطارات القديمة للسيارات، وبعض الأواني القديمة، وانتظرنا حوالي أسبوعين  ثم بدأت أجمع أنا و"فرح" بعض أوراق الصبار، التي أخبرتني "فرح" أنها تصلح لاستخراج المادة اللزجة بها، وبدأنا بتصنيع الصابون، أضفنا أثناء التصنيع بعض المواد العطرية به؛ حتى تغلب على رائحه الصبار، قمنا باستكمال باقي الخطوات إلى أن تم إنتاج الصابون، كان جميل ورائحته عطرة وملمسه ناعم، وبمرور الأيام بدأنا نرى بعض من ثمار المشروع، تعاقد معنا أكثر من مكان؛ لكي نورد له الصابون، لا أنسى أبدًا أول مبلغ مالي أعطاه لي "عمار"، توجهت إلى محل لعب الأطفال، اشتريت ل"شام" ابنتي الكبرى العروسة التي كانت تحلم بها، كانت تشبهها، عيناها تشبهان السحب رمادية اللون، كأعين "شام" وشعرها يشبه سلاسل الذهب، ووجهها أبيض تتخلله حمرة كحوريات البحر، آه يا "شام"، كم تمنيت أن تحي يا ابنتي في وطن يملؤه الأمان، أما "محمد" اشتريت له سيارة زرقاء كما طلبها هو الآخر، عينا محمد تشبهان بحر غزة، صافي وجميل ولكن يملؤه الحزن وتفوح منه رائحة الدماء، وعندما عدت إلى المنزل وشاهدوا الألعاب قفزوا من أماكنهم في فرح وسعادة، شعرت حينها بأن أيام الشقاء أوشكت أن تنتهي، مرت أشهر على المشروع، واستأجرنا السطح الملاصق لسطح منزلنا وزرعناه هو الآخر، إلى أن تبدل الحال بين ليلة وضحاها، أغارت الطائرات الإسرائيلية علينا، صارت تقصف البيوت، كانت تقصف كل شيء تحولت المنازل التي بجواري بفعل صاروخ إلى ركام، انهدمت على رؤوس ساكنيها، قرع الخوف و الفزع قلوبنا، أخذت أطفالي وأمي وذهبنا إلى بيت صديقتي في مكان كنا نظن أنه آمن، كان العدد كبير عائلتنا وبعض العائلات الأخرى،  اكتظ المكان بنا، الجميع أراد النجاة، أردنا أن نبحث عن بقعة امنه في هذا الوطن نفر إليها، ولكن مع هذا العدد بقي الطعام شحيحا، وخصوصا  بعد أن فرض الاحتلال حصار خانق على غزة،  اصبح كوب الماء يتقاسمه  أكثر من فرد،  لا يوجد في البيت شيء يصلح للطعام، أخبرت "أم عمار" أني سوف أنزل لكي أشتري طعام، وقبلت "شام" في جبينها هي و"محمد"، بحثت في مكان لعلي أجد ربطه خبز أو بعض المعلبات، لم يمضِ على خروجي من المنزل سوى بضع دقائق وسمعت صوت انفجار ضخم، من شدته وقعت على الأرض، صرخت بأعلى صوتي، الغبار والأشلاء تملئ المكان، أصوات صراخ، شعرت حينها أنني في كابوس وسوف أفيق منه، أسرعت نحو المنزل الذي تقطن فيه عائلتي  لم أجدهم، صرت أبحث في الركام عنهم، أصرخ ولكن دون جدوى، حاولت أن أزيح تلك الحجارة، صرت أصرخ، أنادي كلًا باسمه ولكن دون جدوى؛ لا أحد منهم يجيب، نظرت فوجدت عربة إسعاف تتحرك... ركضت خلفها حتى وصلت إلى  المستشفى، الدماء تملئ الشوارع، صرخات الرعب والفزع تملئ المكان،  الدعاء والرجاء أن يكون الأحباب بخير تضج بها الشوارع، وقلبي الحزين المكلوم يدعو أن يبقى منهم أحد على قيد الحياة، أن تلمس يدي جبهة أحدهم، أن أستنشق أنفاسهم مرة أخرى، الدموع متحجرة في عينيّ، لكن روحي هي من تنزف، اقتربت من المستشفى توقف قلبي، وجدت "زهرة" تصرخ أصبح وجهها مملوء بالغبار تبكي وتضحك وتنادي بأعلى صوتها " لماذا ذهبت وتركتني وحيدة يا حمزة؟!

 الكلمات التي وقعت على أذني كانت صعبة، لم أستطع استيعابها، اقتربت منها ضممتها لصدري، صرت أصرخ وأصرخ ثم ابتعدت عنها وتركتها، بت أسأل كل من أراه عن أولادي حتي جاءني الرد دون كلام، وجدت "عمار" يبكي، كان يضرب على رأسه بيديه ويقول:

_ مات الأولاد.

 صرخت في المستشفى، الأولاد ماتوا من قبل ما يأكلوا... والله ماتوا من غير أكل.


http://dlvr.it/T6g1ld
تعليقات
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إرسال تعليق

الاسمبريد إلكترونيرسالة